بتلقائية عارية، عكفت على رصد الجهات التي تطلع منها أقمار سفرياتك المبهمة، واستثمرت ما لدي من رأسمال رمزي، لأزج بك في زنزانة، منحوتة من المرمر واللؤلؤ والمرجان، ومحروسة من قبل نجوم لا تكف عن التوهج، ونافورات تتدفق منها أنغام تصيب سامعها بأقصى درجات الانتشاء.
وقفت قبالتي، كمهرة جامحة، ملوحة ببيرق عنادها، أرسلت شظية من عينيك لتعدميني، وتدفق من وجهك المرشوش بالعطر البلدي ماء حارق له لون ومذاق وإيقاع، وبينما أنا منصعق تحت وطأة المشهد، أمسكت بقلبي كي لا يسقط من شرفة الوقت، وأعطيت الأوامر لذاكرتي كي تستحضر ركام الصور التي اخترقتني وراقبت عن كثب كينونتي حتى لا تصاب بالهلاك والفساد الوجودي.
تحسست دواخلي. فألفيتها غابة من حرائق الأسئلة وصحراء أسطورية يؤثتها عويل الرمل وأنين الفراغ. وبين السؤال ونظيره، كنت أركض حتى لا أصبح مفازة تمقت بهاء الورد، وحتى أؤمن لمنازلتي هامشا واسعا، ينقذني من الوقوع في مخالب التهلكة، لأنني أخشى النهايات المجانية، وأجهش بالاعتراف إذا استسلمت، ودمي سيلون تفاصيل خياراتك، وسيكون شاهد إثبات على نزوعك البطولي. وحساباتك المفتونة برهان الإخضاع والإرضاخ والإخصاء، تساءلت كمن يبحث عن برادة اللغة، وحياد الحواس:" أي قاسم مشترك يوجد بين دمك ودمي؟ وهل في متناول القلب أن يعزف نشيد ابتهاجه من دون التورط في دهاليز الشكوى والجوى والتمسك بالأوهام؟
بشكل استفزازي، كنت أقرأ في غنجك تلك الترسبات التي انحدرت إليك من مواضعات العشيرة التي طوقتك بجحافل الحسب والنسب، ونظافة المنبت، ورقة اللغة، ورشاقة القوام، وجذرت في دماغك إيديولوجيا التفوق الجهوي، وحرصت على أن تكوني في طليعة المدافعين عن هذا التراث/ الخصوصية، ضمانا لاستمراريته في الزمان والمكان، وتعبيرا عن الارتباط الدموي والروحي بمصير العشيرة ومآلها.
قد تكون هذه الاحتمالات مجافية للصواب، بيد أن سبر أغوار الباطن اللغوي، وإلقاء القبض على خلفيته ومكوناته وإحالاته، يكشف النقاب عن تفاعلات لا شعورية تمتد في الذاكرة، وتهيكل نمط التفكير وترسم أفق الوعي الممكن، ومن الصعب أن تتصوري أو تعترفي أنك ضحية نظام قيمي يتعقب قلبك ودماغك، آناء الليل والنهار، ويطبق بتوجسه على دائرة ما يمكن أن تقدمي عليه من حسم يحررك من ربقة الازدواجية الخانقة، ويمكنك من الإمساك بزمام المبادرة.فيما يشبه المفارقة، ركبت أمواج بحر هائج، وقررت أن أقاوم، وأن أداري العواصف العاتية، فقد أصل إلى شط الأمان، وقد ألقى حتفي إذا ما اختطف قلبي موت مباغت، حاولت التقاط ذبذبات تخميناتك، لأضبط نوع الفصيلة التي تنتمين إليها، وتتأبطين تطلعاتها. والتماسا للوضوح، سألتك قائلا: "هل أستطيع الاقتراب من حدودك المكهربة؟"
"أحب، أحب، لا أستطيع الرجوع الى أول البحر
لا أستطيع الذهاب الى آخر البحر قولي
إلى أين يأخذني البحر في شهوتك
وكم مرة سوف تصحو الوحوش الصغيرة في صرختك
خذيني لآخذ قوت الحجل
وتوت زحل
على حجر البرق في ركبتيك
.
مقطع من رواية "مصرع أحلام مريم الوديعة"واسيني الأعرج
من ديوان "هي أغنية... هي أغنية" ص. 53 محمود درويش